روى البلاذري : أن عثمان لما عزل الوليد عن
الكوفة ، ولاها سعيد بن العاص ، وأمره بمداراة أهلها .
فكان يجالس قراءها
ووجوه أهلها ، ويسامرهم ، وتذاكروا يوما عنده السواد والجبل ، ففضلوا السواد
، وقالوا : هو ينبت ما ينبت الجبل وله هذا النخل ، فقال صاحب شرطة سعيد : لوددت أن
هذا السواد للأمير ، ولكم أفضل منه ، فقال له الأشتر : تمن للامير أفضل منه ولا تمن
له أموالنا ، فقال : ما يضرك من تمنى حتى تزوي ما بين عينيك ، فوالله لو شاء كان له
، فقال الأشتر : والله لو رام ذلك ما قدر عليه ، فغضب سعيد وقال : إنما السواد
بستان لقريش ، فقال : أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك ،
والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ووثب بصاحب الشرطة فأخذته الأيدي .
فكتب سعيد بن العاص
بذلك إلى عثمان وقال : إني لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القراء
- وهم السفهاء - شيئا .
فكتب إليه أن سيرهم
إلى الشام ، فخرج المسيرون من قراء أهل الكوفة فاجتمعوا بدمشق فبرهم معاوية وأكرمهم
ثم إنه جرى بينه وبين الأشتر قول حتى تغالظا ، فحبسه ، ثم أخرجه من الحبس ، وبلغ
معاوية أن قوما من أهل دمشق يجالسون الأشتر وأصحابه ، فكتب إلى عثمان : إنك بعثت
إلي قوما أفسدوا
مصرهم وأنغلوا ، ولا
آمن أن يفسدوا طاعة من قبلي ويعلموهم مالا يجيدونه حتى تعود سلامتهم غائلة
واستقامتهم اعوجاجا . فكتب إلى معاوية يأمره أن يسيرهم إلى حمص ففعل.
وروى المدائني أنه كان لهم مع معاوية بالشام مجالس طالت فيها
المحاورات والمخاطبات بينهم ، وأن معاوية قال لهم في جملة ما قال : إن قريشا قد
عرفت أن أبا سفيان أكرمها وابن أكرمها إلا ما جعل لنبيه فإنه انتجبه وأكرمه ، ولو
أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء .
فقال له صعصعة بن
صوحان : كذبت ! قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ من روحه ، وأمر
الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البر والفاجر والكيس والأحمق .
وإنما كان معاوية
يشكو من بقاء صحابة النبي كأبي ذر ، وعبادة بن الصامت وغيرهما من التابعين وقراء
المسلمين وأخيارهم في الشام خشية أن يعرفوا أهل الشام بما خفي عنهم من الإسلام
وأحكامه ، فلا يستطيع معاوية آنذاك أن يعيش فيهم عيشة كسرى وقيصر ، وبعد أن بلغ
السيل الزبى ، وثار المسلمون بعثمان في المدينة كتب عثمان إلى معاوية فيمن كتب إليه
من ولاته يستمده ويقول : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة كفروا ،
وأخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل
صعب وذلول .
فلما جاء معاوية
الكتاب تربص به وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد علم
اجتماعهم ، فلما أبطأ أمره على عثمان كتب إلى أهل الشام يستنفرهم . .
قال البلاذري : ولما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده بعث يزيد
بن أسد القسري وقال له : إذا أتيت ذا خشب فأقم بها ، ولا تتجاوز ، ولا
تقل : يرى الشاهد ما لا يرى الغائب ، فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب ، قال : فأقام
بذي خشب حتى قتل عثمان ، فاستقدمه حينئذ معاوية ، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان
أرسل معه ، وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان ، فيدعو إلى نفسه.
ولما بويع لعلي ، ندم معاوية على ما فرط في جنب عثمان ، ورأى
أن الخلافة قد زويت عنه ، فكتب لطلحة والزبير يمنيهما الخلافة ، ويدفعهما إلى قتال
علي ، حتى إذا قتلا بالبصرة .
وبعث علي إليه جريرا يطلب منه البيعة ، فقال لجرير:
أكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده
بيعة في عنقي ، وأسلم له هذا الأمر ، واكتب إليه بالخلافة .
فقال جرير : اكتب بما
أردت ، واكتب معك ، فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي إلى جرير : " أما بعد ،
فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن
يرثيك حتى يذوق أهل الشام ، وإن المغيرة بن شعبة كان
قد أشار علي أن
استعمل معاوية على الشام ، وأنا بالمدينة فأبيت ذلك عليه ، ولم يكن الله ليراني
أتخذ المضلين عضدا ، فإن بايعك الرجل وإلا فأقبل " . وفشا كتاب معاوية في العرب
فبعث إليه الوليد بن عقبة :
معاوي إن الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الافاعيا
وحام
عليها بالقنابل والقنا * ولاتك محشوش الذراعين وانيا
وإن
عليا ناظر ما تجيبه * فأهد له حربا تشيب النواصيا
وإلا
فسلم إن في السلم راحة * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا
وإن كتابا يا ابن حرب
كتبته * على طمع يزجي اليك الدواهيا
سألت
عليا فيه ما لن تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا
وسوف ترى منه الذي ليس بعده
* بقاء فلا تكثر عليك الامانيا
أمثل
علي تغترره بخدعة * وقد كان ما جربت من قبل كافيا
ولو نشبت أظفاره فيك مرة *
فراك ابن هند بعدما كنت فاريا
قال : وكتب إليه أيضا
:
معاوي إن الملك قد جب غاربه * وأنت بما في كفك اليوم صاحبه
أتاك
كتاب من علي بخطة * هي اللفصل فاختر سلمه أو تحاربه
ولا ترج عند الواترين مودة * ولا تأمن اليوم الذي أنت راهبه فحاربه
إن حاربت حرب ابن حرة * وإلا فسلم لا تدب عقاربه
فإن عليا غير ساحب ذيله * على خدعة ما سوغ الماء شاربه
ولا قابل ما لا يريد وهذه * يقوم بها يوما عليك نوادبه
ولا تدعن الملك والامر مقبل * وتطلب ما أعيت عليك مذاهبه
فإن كنت
تنوي أن تجيب كتابة * فقبح ممليه وقبح كاتبه
فالق إلى الحي اليمانين كلمة * تنال بها الامر الذي أنت طالبه
تقول : أمير المؤمنين أصابه * عدو ومالاهم عليه أقاربه
أفانين منهم قاتل ومحضض * بلا ترة كانت وآخر سالبه
وكنت أميرا
قبل بالشام فيكم * فحسبي وإياكم من الحق واجبه
فجيئوا ومن أرسى ثبيرا مكانه * ندافع بحرا لا ترد غواربه
فأقلل وأكثر ما لها اليوم صاحب * سواك فصرح لست ممن
تواربه
وروى ابن كثير في تاريخه أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كتب
إلى معاوية يؤنبه ويلومه على ما كتب إلى علي ، وسؤاله منه ولاية الشام ومصر وقال
فيه : معاوية إن الشام شامك فاعتصم . . الابيات .
وقال ابن كثير : ثم أخذ معاوية البيعة من أهل الشام بالطلب
بدم عثمان ، وجهز جيشا لقتال علي فالتقى بجيوش علي في صفين في ربيع الآخر سنة ست
وثلاثين.
وطالت الحرب بينهما
مائة يوم وعشرة أيام ، وبلغت الوقائع بينهما تسعين واقعة ، ولما أن عضت الحرب
معاوية كرر على علي طلب الشام فأبى عليه، ثم بان الانكسار في جيش معاوية ،
فأشار عليهم عمرو برفع المصاحف يطلبون الرجوع إليها ، فانخدع جيش العراق ، وقبلوا
التحكيم في صفر سنة سبع وثلاثين ، فعين معا واية عمرا وأهل الكوفة أبا موسى ،
فخدع عمرو أبا موسى ، فخلع أبو موسى عليا ومعاوية ، ونصب عمرو معاوية ، فافترقا
يتسابان ، وأصيب بصفين من أهل الشام خمسة وأربعون ألفا ، ومن أهل العراق خمسة
وعشرون ألفا
رجع معاوية إلى الشام
بعد حرب صفين في سنة سبع وثلاثين ، وأخذ يبعث إلى أطراف علي من يغير عليهم ، ويهلك
الحرث والنسل ، فوجه النعمان ابن بشير ، وسفيان بن عوف ، و عبد الله بن مسعدة ،
والضحاك بن قيس ، وبسر ابن أرطاة ، وغيرهم فنفذوا ما رسم لهم من قتل وإرهاب مما
سنذكره بعد إيراد تراجمهم .
أ - النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي : ولد قبل وفاة النبي
بثماني سنين وسبعة أشهر ، أو بست سنين ، وكان في الفتن هواه مع عثمان ، ثم مع
معاوية ، ثم يزيد ، خلافا لقومه الأنصار ، وهو الذي حمل قميص عثمان من المدينة إلى
الشام ، فرفعه معاوية على منبرها ، يهيج به أهل الشام ، وولي لمعاوية الكوفة ، ثم
حمص ، ومن بعد معاوية بن يزد دعا إلى بيعة عبد الله بن الزبير ، فقتله شيعة بني
أمية بمرج راهط في ذي الحجة سنة أربع وستين.
وجه معاوية النعمان بن بشير هذا في سنة تسع وثلاثين إلى عين
التمرفي ألف رجل ، فأغاروا عليها ، وكان بها مسلحة لعلي ، فيها مائة رجل
فكسروا جفون سيوفهم ، واقتتلوا أشد قتال وجاءهم خمسون رجلا من القرى المجاورة ،
فلما رآهم أهل الشام ظنوا أن لهم مددا فانهزموا عند المساء.
ب - سفيان بن عوف بن المغفل الأزدي الغامدي ، وكان مع أبي
عبيدة
في فتوح الشام ، وكان
معاوية يوليه غزو الروم في الصائفتين، توفي في أرض الروم سنة اثنتين ، أو
ثلاث . أو أربع وخمسين .
وجهه معاوية أيضا في سنة تسع وثلاثين ، وقال له فيما أوصاه :
فاقتل من لقيته ممن ليس هو على رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من القرى ، وأحرب
الأموال ، فان حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب .
وفي رواية الطبري وابن الأثير : وجهه معاوية في ستة
آلاف رجل ، وأمره أن يأتي هيت، فيقطعها ، وأن يغير عليها ، ثم يمضي حتى يأتي
الانبار والمدائن ، فيوقع بأهلها ، فسار حتى أتى هيت ، فلم يجد بها أحدا ، ثم
أتى الانبار وبها مسلحة لعلي فيها مائة رجل ، فقتلوا منهم ثلاثين ، واحتملوا ما كان
في الانبار من أموال وأموال أهلها ، ورجعوا إلى معاوية.
وقتل رجالا ونساء ،
فبلغ ذلك علي بن أبي طالب ، فخطب أهل الكوفة ، وقال في خطبته : " وتركتم قولي
وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات ، هذا أخو غامد ، قد جاء الانبار ، فقتل عاملها
، وقتل رجالا كثيرا ونساء، والله لقد بلغني أنه كان يأتي المرأة المسلمة والاخرى
المعاهدة ، فينزعها حجلها ورعاثها ، ثم ينصرفون موفورين لم يكلم أحد منهم كلما
، فلو أن امرءا مسلما مات دون هذا أسفا لم يكن عليها ملوما ، بل كان به جديرا ..".
الخطبة .
ج - عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر الفزاري : سبي
طفلا في سرية زيد بن حارثة إلى بني فزارة بعد أن قتل في المعركة مالك جد أبيه مع
ثلاثة عشر من ولده وحفيده مسعدة والد عبد الله بن مسعدة هذا ، وغيرهم من أفراد
أسرته وربطت أم قرفة جدة أبيه بين بيعرين وأرسلا حتى انشقت نصفين ، ووهب النبي عبد
الله بن مسعدة لابنته فاطمة فأعتقته ، ثم كان عند علي ، ثم صار إلى معاوية ، وكان
من أشد الناس على علي ، وعاش حتى غزا المدينة في واقعة الحرة وجرح في قتال ابن
الزبير محاصرا الحرم ، ولم نجد له ذكرا بعد ذلك .
وجه معاوية عبد الله هذا في ألف وسبعمائة ، وأمره أن يصدق من
مر به من أهل البوادي ، وأن يقتل من امتنع من عطائه ، ثم يأتي مكة والمدينة والحجاز
د - الضحاك بن قيس القرشي الفهري : ولد قبل وفاة النبي نحوا من سبع سنين ،
له في حروب معاوية بلاء عظيم ، وكان على شرطته ، ولاه الكوفة سنة ثلاث وخمسين ،
وعزله سنة سبع وخمسين ، وهو الذي ولي دفن معاوية ، وأخبر يزيد بموته ، وكان يزيد
يوم ذاك خارج دمشق ، وبايع لابن الزبير بعد معاوية ابن يزيد ، وقاتل مروان بمرج
راهط ، فقتل بها منتصف ذي الحجة سنة أربع وستين .
قال الطبري : ووجه الضحاك بن قيس ، وأمره أن يمر
بأسفل واقصة ، وأن يغير على كل من يمر به ممن هو في طاعة علي من الاعراب ، ووجه معه
ثلاثة آلاف رجل ، فمر على الثعلبية ، وأخذ أمتعتهم ، ومر في القطقطانة بعمرو
بن عميس بن مسعود ، وهو يريد الحج ، فأغار على من كان معه ، وحبسه عن المسير .
وفي كتاب الغارات : فأقبل الضحاك ، فنهب الأموال ،
وقتل من لقي من الاعراب حتى مر بالثعلبية ، فأغار على الحاج ، فأخذ أمتعتهم ، ثم
أقبل ، فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي ، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب
رسول الله صلى الله عليه وآله فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة ، وقتل معه ناسا
من أصحابه .
هـ - بسر بن أبي أرطاة القرشي العامري : كان من شيعة معاوية
، وكان مع
معاوية بصفين ، فأمره
أن يلقى عليا في القتال ، وقال له : سمعتك تتمنى لقاءه ، فلو أظفرك الله به ،
وصرعته ، حصلت على دنيا وآخرة ، ولم يزل يشجعه ويمنيه حتى رآه ، فقصده في الحربن
فالتقيا : فطعنه علي فصرعه ، فانكشف له ، فكف عنه كما عرض له ذلك مع عمرو بن العاص
.
فقال في ذلك الحارث
ابن النضر السهمي :
أفي كل يوم فارس تندبونه * له عورة وسط العجاجة باديه
يكف لها
عنه علي سنانه * ويضحك منها في الخلاء معاويه
بدت أمس من عمرو فقنع رأسه * وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا
لعمرو وابن أرطاة : أبصرا * سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا إلا الحيا وخاصكما * هما كانتا والله للنفس واقيه
ولولاهما لم تنجوا من سنانه * وتلك بما فيها عن العود ناهيه . .
وقال الاشتر :
أكل يوم رجل شيخ شاغرة * وعورة وسط العجاجة ظاهرة
تبرزها طعنة كف
واترة * عمرو ويسر منيا بالفاقرة
اختلفوا في أن بسرا
أدرك النبي ، وسمعه أم لا . وقالوا : إنه لم يكن له استقامة بعد النبي - يعني أنه
كان من أهل الردة ولما بلغ عليا فعله بالمسلمين ، وقتله الصبيين كما يأتي دعا عليه
وقال : اللهم اسلب دينه ، ولا تخرجه من الدنيا ، حتى تسلبه عقله ، فأصابه ذلك ،
وفقد عقله ، وكان يهذي بالسيف ، ويطلبه ، فيؤتى بسيف من خشب ، ويجعل بين يديه زق
منفوخ فلا يزال يضربه حتى يسأم ، وتوفي في أيام معاوية
قال الطبري : وفي سنة أربعين بعث معاوية بسر بن أبي
أرطاة في جيش ، فسار حتى دخل المدينة ، وأخاف أهلها ، وبقية الأنصار فيها ، وهدم
دورا ، ثم سار أتى اليمن ، ولقي ثقل عبيدالله بن العباس ، وفيه ابنان له صغيران ،
فذبحهما ، وقتل في مسيرة ذلك جماعة كثيرة من شيعة علي .
وفي كتاب الغارات: بعثه في ثلاث آلاف ، وقال : سر
حتى تمر بالمدينة ، فاطرد الناس ، وأخف من مررت به . وانهب أموال كل من أصبت له
مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا . وقال : وكانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك
الماء ، فركبوها ، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر ، فيردون تلك الابل ،
ويركبون إبل هؤلاء ، فلم يزل يصنع كذلك حتى قرب إلى المدينة . وقال : ودخل بسر
المدينة ، فخطب الناس ، وشتمهم ، وتهددهم يومئذ ، وتوعدهم ، وقال : شاهت الوجوه .
وفي تهذيب التهذيب : وكان معاوية وجهه إلى اليمن والحجاز في أول سنة أربعين ، وأمره
أن يستقرئ من كان في طاعة علي فيوقع بهم ، ففعل بمكة والمدينة أفعالا قبيحة .
وفي تاريخ ابن عساكر : ليستعرض الناس ، فيقتل من كان في طاعة
علي ، فقتل قوما من بني كعب على مائهم في ما بين مكة والمدينة ، وألقاهم في البئر .
وفي مروج الذهب: قتل بالمدينة وبين المسجدين خلقا
كثيرا من خزاعة
وغيرهم ، وكذلك
بالجرف قتل بها خلقا كثيرا من الابناء ، ولم يبلغه عن أحد يمالئ عليا أو يهواه إلا
قتله .
وفي الاغاني : إن معاوية بعث إلى بسر بعد تحكيم الحكمين ،
وعلي بن أبي طالب ( رض ) يومئذ حي ، وبعث معه جيشا آخر ، وأمر أن يسيروا في البلاد
، فيقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي بن أبي طالب وأصحابه ، وأن يغيروا على سائر
أعماله ، ويقتلوا أصحابه ، ولا يكفوا أيديهم عن النساء والصبيان ، فمر بسر لذلك على
وجه حتى انتهى إلى المدينة ، فقتل بها ناسا من أصحاب علي ( ع ) ، وأهل هواه ، وهدم
بها دورا ، ومضى إلى مكة ، فقتل نفرا ن آل أبي لهب ، ثم أتى السراة فقتل بها من
أصحابه وأتى نجران ، فقتل عبد الله بن المدان الحارثي ، وابنه ، وكانا من أصهار بني
العباس عامل علي ، ثم أتى اليمن ، وعليها عبيدالله بن العباس عامل علي ، وكان غائبا
وقيل بل هرب لما بلغه خبر بسر ، فلم يصادفه بسر ، ووجد ابنين له صبيين ، فأخذهما
بسر لعنه الله وذبحهما بيده بمدية كانت معه ، ثم انكفأ راجعا إلى معاوية .
قالوا : فقالت امرأة
له : يا هذا ! قتلت الرجال ! فعلام تقتل هذين ؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية
والإسلام ، والله يا ابن أبي أرطاة إن سلطانا لا يقوم
إلا بقتل الصبي
الصغير ، والشيخ الكبير ، ونزع الرحمة ، وعقوق الارحام لسلطان سوء .
وقالوا : فولهت
عليهما أمهما ، وكانت لا تعقل ، ولا تصغي إلا لمن يخبرها بقتلهما ، ولا تزال
تنشدهما في المواسم :
هامن
أحس بإبني اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف
هامن أحس بإبني اللذين هما *
قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف
هامن
أحس بإبني اللذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
منذل والهة حيرى مدلهة *
على صبيين ذلا إذ غدا السلف
نبئت
بسرا وما صدقت ما زعموا * من قولهم ومن الافك الذي اقترفوا
أحنى على ودجي إبني
مرهفة * من الشفار كذاك الاثم يقترف
وفي الاستيعاب وأسد الغابة: أغار بسر بن أرطاة على
همدان ، وقتل ، وسبى نساءهم ، فكن أول مسلمات سبين في الاسلام ، فأقمن في السوق .
وفي كتاب الغارات : وأتاه وفد مأرب ، فقتلهم ، فلم
ينج منهم إلا رجل واحد ، ورجع إلى قومه ، فقال لهم : " إني أنعى قتلانا شيوخا
وشبانا " . وقال : فندب علي أصحابه لبعث سرية في أثر بسر ، فتثاقلوا ، وأجابه جارية
بن قدامة السعدي فبعثه في ألفين .
وذكر اليعقوبي : أن عليا عهد لجارية ، وجاء في عهده إليه : و
" لا تقاتل
إلا من قاتلك ، ولا
تجهز على جريح ، ولا تسخرن دابة ، وإن مشيت ومشى أصحابك ، ولا تستأثر على أهل
المياه بمياههم ، ولا تشربن إلا فضلهم عن طيب نفوسهم ، ولا تشتمن مسلما ، ولا مسلمة
، فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه ، ولا تظلمن معاهدا ولا معاهدة " .
وجاء فيه أيضا " واسفك الدم في الحق وأحقنه في الحق "
.
وقال في كتاب الغارات : فشخص إلى البصرة ، ثم أخذ طريق الحجاز
حتى قدم اليمن ، وقال : وبلغ بسرا مسير جارية ، فانحدر إلى اليمامة ، وأغذ جارية بن
قدامة السير ما يلتفت إلى مدينة مر بها ، ولا أهل حصن ولا يعرج على شئ . وقال :
وصمد نحو بسر ، وبسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة أخرى حتى أخرجه من أعمال علي .
وقال : ووثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية ، لسوء سيرته وفظاظته
وظلمه وغشه . وقال : وكان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا ، وحرق قوما بالنار
، فقال يزيد بن مفرغ . ثم ذكر أبياته التي منها :
إلى حيث سار المرء بسر بجيشه * فقتل بسر ما استطاع وحرقا .
وأرسل معاوية غارات أخرى إلى أطراف علي من غير ما ذكرناه ، وكانت خيله أبدا تحذر من مواجهة خيل علي وحده وحديده ، وإنما كانت تغير على
الاطراف النائية ، والقرى غير المحصنة ، أو ما كان له فيها مسلحة
صغيرة
قليل عددها وإذا تصدى
لهم جيش لعلي خنسوا عن طريقه .
وكان من الغارات التي التحم فيها الجيشان غارة جيش معاوية على
أهل الجزيرة فان عامل علي هناك استنجد بكميل بن زياد وكان على هيت ، فسار إليهم كميل في ستمائة فارس ، فقاتلهم وهزمهم وأكثر القتل في أهل الشام ،
وأمر أن لا يجهز على جريح ، ولا يتبع مدبر ، وقتل من أصحاب كميل رجلان .
وتبع أحد ولاة علي
الجيش الشامي المغير فلم يدركهم ، فعبر الفرات خلفهم ، وبث خيله فأغارت على أهل
الشام حتى بلغ نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية هناك ماشية إلا استاقها ولا
خيلا ولا سلاحا إلا أخذه ، ووجه معاوية إليه جيشا لم يدركه ، فإنه عاد إلى نصيبين سالما ، وكتب إلى علي بخبره فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل
والسلاح الذي يقاتلون به .
إن هاتين السياستين المتقابلتين ، سياسة
علي : أن لا يقاتل جيشه إلا من قاتله ، ولا يسخرن دابة وإن مشوا ، ولا
يشربون إلا من فضل مياه أهل المياه ، ولا يشتمن المسلم ، ولا يظلمن المعاهد ، ولا
يسفكن الدم إلا في الحق ، ونهيه أن لا يأخذوا من أموال الناس إلا الخيل والسلاح
الذي يقاتلون به
وسياسة معاوية : أن يقتل جيشه من لقيه ممن ليس على رأيه ،
ويخربوا كل
ما مروا به من القرى
، ويحربوا الأموال ، وينهبوا أموال كل من أصابوا له مالا ممن لم يكن دخل في
طاعة معاوية ، ويستعرضوا الناس ، ويقتلوا من كان في طاعة علي ، ولا يكفوا أيديهم عن
النساء والصبيان .
كان لابد لاحدى هاتين السياستين : السياسة التي تأمر بسلب
أموال الناس أن تغلب التي تنهى عنها .
ولذلك كان أهل العراق
يتثاقلون عن تلبية نداء علي ، وأهل الشام يتبادرون إلى نداء معاوية ، ولو سمح علي
لأهل العراق ما أمر به معاوية أهل الشام ، لضيعوا على معاوية سياسته ودهاءه ، ولكن
عليا كان يقول : " أما والله إني لعالم بما يصلحكم ولكن في ذلك فسادي "
حارب معاوية عليا باسم الطلب بدم عثمان ، ولكن ، هل كانت هذه
القرى المسلمة الآمنة من العراق إلى الحجاز حتى اليمن مشاركة في دم عثمان ؟
وهل ان عشرات الالوف من
القتلى الذين أبادتهم غارات معاوية أهلكوا في سبيل الطلب بدم عثمان ؟
وهل إن المسبيات من
المسلمات والقتلى من الاطفال الصغار ، كان عليهن وعليهم وزر دم عثمان ؟
كلا ! ولكن معاوية كان
يبتغي الملك ، وكانت الغاية لديه تبرر الواسطة .
هذا معاوية في عصر علي
.
ولما قتل علي بسيف ابن ملجم ، وبايع المسلمون الحسن ، كتب إلى
معاوية يطلب منه البيعة ، فأبى عليه ، ثم سار معاوية بجيوشه نحو العراق فخرج الحسن
في جيوشه ، وساق أمامه ابن عمه عبيدالله بن العباس بن عبد المطلب في اثني عشر ألفا
من فرسان العرب ، وقراء الكوفة ، وآزره بقيس بن سعد بن عبادة ، ولما لقي عبيدالله بن العباس معاوية ،
ووقف بأزائه . جرت بعض المناوشات بين الجيشين .
ثم
احتال معاوية على عبيدالله ، وأرسل إليه في الليل قائلا له : إن الحسن قد
راسلني في الصلح ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ،
ولك إن جئتني الآن أن
أعطيك ألف ألف درهم ، يعجل في هذا الوقت النصف ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ،
فانسل عبيدالله ليلا فدخل عسكر معاوية .
ودس معاوية إلى عمرو بن حريث ، والاشعث بن قيس ، وإلى حجار بن
أبجر ، وشبث بن ربعيدسيسا : أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه إنك إن قتلت
الحسن بن علي ، فلك مائة ألف درهم ، وجند من أجناد الشام ، وبنت من بناتي ، فبلغ
الحسن فاستلام ، ولبس درعا وكفرها ، وكان يحترز ، ولا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك ،
فرماه أحدهم في الصلاة بسهم ، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة . . الحديث
.
وقال اليعقوبي : كان معاوية يدس إلى عسكر الحسن ، من
يتحدث
إن قيس بن سعد قد
صالح معاوية ، وصار معه ، ووجه إلى عسكر قيس ، من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية
وأجابه ، ووجه معاوية إلى الحسن المغيرة ابن شعبة ، وعبد الله بن عامر بن كريز ،
وعبد الرحمن بن أم الحكم ، وافوه وهو بالمدائن نازل في مضاربه ثم خرجوا من عنده ،
وهم يقولون ، ويسمعون الناس : إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء ، وسكن به
الفتنة ، وأجاب إلى الصلح ، فاضطرب العسكر ، ولم يشكك الناس في حديثهم ، فوثبوا
بالحسن ، فانتهبوا مضاربه وما فيها ، فركب الحسن ( ع ) فرسا له ، ومضى في مظلم
ساباط وقد كمن له الجراح بن سنان الاسدي فجرحه ( ع ) بمغول في فخذه وحمل الحسن إلى
المدائن وقد نزف نزفا شديدا ، واشتد به العلة فافترق عنه الناس .
وقال الطبري: بايع الناس الحسن بن علي ( ع )
بالخلافة ، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن إلى قوله فبينا الحسن في المدائن إذ نادى
مناد في العسكر : ألا إن قيس بن سعد قد قتل فانفروا ، فنفروا ، ونهبوا سرادق الحسن
حتى نازعوه بساطا كان تحته . وفي رواية وعولجت خلاخيل أمهات أولاده،
وقال الطبري : لم
يلبث الحسن بعدما
بايعوه إلا قليلا حتى طعن طعنة أشوته فازداد لهم بغضا وازداد منهم ذعرا .
قال أبو الفرج : وبعث معاوية إلى الحسن للصلح وشرط ألا يتبع
أحد بما مضى ، ولا ينال من شيعة علي بمكروه ، ولا يذكر عليا إلا بخير ، وأشياء
اشترطها الحسن . ثم دخل معاوية الكوفة ، وخطبهم فقال : إني والله ما قاتلتكم لتصلوا
، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، إنما قاتلتكم لاتأمر
عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.
وقال : ألا إن كل شئ
أعطيته الحسن فتحت قدمي هاتين