أما معاوية فلم يكن
في الجاهلية بدعا عن أبويه وذويه في حروبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله
والمسلمين ، ولما رأى أن أباه أقبل يسلم ، خاطبه بقوله :
يا صخر ، لا تسلمن فتفضحنا * بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
خالي
وعمي وعم الام ثالثهم * وحنظل الخير قد أهدى لنا
الارقا
لا تركنن إلى أمر تقلدنا * والراقصات به في مكة الخرقا
فالموت
أهون من قول العداة لنا * عاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا
وأسلم معاوية بعد الفتح في من أسلم ، وكان نصيبه من غنائم
حنين مائة ناقة وأربعين أوقية أسوة بغيره من المؤلفة قلوبهم الذين تألف النبي
قلوبهم بذلك ، ثم تكرم عليه واستكتبه في من استكتب من أصحابه ، وبعث النبي إليه ذات
يوم ابن عباس يدعوه ليكتب له ، فوجده ابن عباس يأكل ، فأعاده النبي إليه يطلبه ،
فوجده يأكل ، إلى ثلاث مرات ، فقال النبي فيه " لا أشبع الله بطنه " وكان من خبره يوم ذاك ، أن امرأة من المهاجرات استشارت النبي فيه وفي رجلين
كانوا قد خطبوها ، فقال رسول الله في معاوية : " أما معاوية فصعلوك لا مال له " .
وخرج رسول الله في سفره ، فسمع رجلين يتغنيان
وأحدهما يجيب الآخر وهو يقول :
يزال حواري
تلوح عظامه * زوى الحرب عنه أن يجن فيقبرا
فقال النبي : " انظروا من هما ؟ " فقالوا : معاوية وعمرو بن العاص ، فرفع
رسول الله يديقه فقال : " اللهم أركسهما في الفتنة ركسا ، ودعهما إلى النار دعا " .
وفي حديث آخر : أن رسول الله رآهما في غزاة تبوك
يسيران ، وهما يتحدثان ، فالتفت إلى أصحابه ، فقال : إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا
بينهما ، فإنهما لا يجتمعان على خير أبدا
وفي رواية : رآهما مجتمعين فنظر إليهما نظرا شديدا ، ثم رآهما
في اليوم الثاني ، واليوم الثالث ، كل ذلك يديم النظر إليهما ، فقال في اليوم
الثالث : " إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ، ففرقوا بينهما فإنهما لن
يجتمعا على خير " .
ونظر رسول الله ذات يوم إلى أبي سفيان وهو راكب ومعاوية وأخوه
، أحدهما قائد والآخر سائق ، قال : اللهم العن القائد والسائق والراكب .
هذا إلى غيره من حديث كثير لرسول الله فيه وفي أسرته
ينبئنا عن مكانة معاوية في ذلك العصر . ومن بعد رسول الله استخلف أبو بكر ، وأرسل
يزيد بن أبي سفيان في من أرسله من الامراء في السنة الثالثة عشرة من الهجرة ، سار
معاوية تحت لواء أخيه يزيد . وفي عهد عمر لما طعن يزيد سنة ثماني عشرة بالطاعون ،
واحتضر ، استعمل أخاه معاوية على عمله دمشق وجندها - فأقره الخليفة على ذلك
.
ولما دخل عمر الشام ، تلقاه معاوية في موكب عظيم ، فقال فيه
عمر : " هذا كسرى العرب " . فلما دنا منه ، قال له : " أنت صاحب الموكب العظيم ؟ "
، قال : نعم يا أمير المؤمنين ! قال : مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال
: مع ما يبلغك من ذلك ، قال : " ولم تفعل هذا ؟ ! " قال : نحن بأرض جواسيس العدو
بها كثير ، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبه . . .
ولما استخلف عثمان ، جمع له الشام ، وأرخى له زمامه ، فانطلق
معاوية على سجيته ، لا يردعه عما يشتهيه رادع .