في الثقافات اليهودية قديمة ومعاصرة، أشكنازية وسفرادية، يوم السبت هو يوم الرب
والعبادة، لا يجوز فيه العمل ومحظور فيه البحث عن المنافع الدنيوية الرخيصة. هو يوم
الراحة الذي يصبح أكل
الحلال فيه أكثر التزاما (في العبرية حلال : كاشير)
ويخصص للعبادة والتصدق ويجوز فيه مساعدة محتاج أو نصرة مظلوم. في هذا اليوم، وهو
أقدم شعيرة في التاريخ استمرت حتى يومنا لفكرة العطلة الإسبوعية، يراجع اليهودي
نفسه فيما فعل ويحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله يوم لا ينفع وساطة أو شفيع. في هذا
السبت المقدس 27/12/2008، بين عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، وقبل نهاية العام
الستين لتوقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي الساعة الحادية عشرة صباحا باشرت
خمسين طائرة حربية إسرائيلية قصف نقاط استهداف لخمسين هدف حكومي وأمني في غزة تبعها
بعد نصف ساعة هجمات لستين طائرة حربية على ستين هدفا إضافيا. واستمرت الهجمات لكن
الساعة الأولى تكفلت وحدها بكسر الأرقام القياسية الإسرائيلية السابقة لكي تبدأ
أكبر مجزرة بحق الفلسطينيين انطلقت في ساعة زمنية قياسية منذ حرب
1967.
السبت عبري والدم فلسطيني والقتل حلال (كاشير). وزير الخارجية
البريطاني ينسى حرمة السبت ويصبح علمانيا، وكذلك زميله الفرنسي، المؤسسات اليهودية
الصهيونية تبحث عن ألف مبرر ومبرر لجعل اختراق حرمة السبت المقدس من صميم الدين عبر
شيطنة الفلسطينيين وتصوير غزة بوصفها طورا بورا الإرهاب الدولي. لا تنتظروا من مجلس
الأمن إدانةً تسمي جنسية راكب القاذفات المقاتلة، ولا تنتظروا من خليل زاده (وهو
بالصدفة أول مسلم يمثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن) أن يطالب المعتدي بوقف
العدوان، بل لا تنتظروا من العديد من عرب الخدمات في الأوساط الحكومية وأحيانا غير
الحكومية، استنكارا لا يذّكر ويقسم الأيمان الغليظة على أنه لم يتوقف عن إدانة قتل
المدنيين من أي طرف كان، وأنه إن يطالب بوقف “إطلاق النار” فقد طالب بالأمس حماس
بالتهدئة ولو من طرف واحد.. فحماس هي المجرم وهي القاتل الأول والأخير، ولأن هذا
الفلسطيني قد صوّت في انتخابات حرة لحماس، فهو المجرم الثاني.. وأمام المجرمين يصبح
“الحق” في ارتكاب كل الجرائم حلالا في الدين والدنيا!!
ألم تقل لكم ليفني
بأنها قد أعلمت كل من يهمه الأمر من المسؤولين العرب والغربيين بما سيفعل جيشها يوم
السبت الأسود وبعده؟ وأن المشكلة ليست وقف الصواريخ البدائية بل قلب الأوضاع في
غزة؟ أين ذهبت صرخات المطالبة بموقف حضاري ومتمدن التي سمعناها يوم حذاء الزيدي؟ أم
أن الحصار حلال والخناق حلال والقتل حلال عندما يتعلق الأمر بالفلسطيني؟ الصمت على
الاستيطان والصمت على التسلح الفائق والصمت على هدم ما هو فلسطيني بل حتى الصمت على
الترانسفير لعرب 48 كل هذا صار من شروط المدنية والانتماء إلى نادي الاعتدال
والمنطق والعقل و “الشرعية الدولية” ؟
قبل انتخاب حماس بخمسة عشر يوما،
أصدرت المفوضية الأوربية تعميما سريا بعد اجتماع في منتصف ديسمبر آنذاك يقول بأن
نجاح حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية يعني بشكل اتوماتيكي قطع المساعدات
الأوربية الرسمية عن الشعب الفلسطيني (بالطبع هذا القرار تم اتخاذه سرا من جانب
واحد ودون قيد أو شرط). فكيف يمكن أن نصدق مسؤولا أوربيا يتحدث عن ضرورة دفاع
الدولة العبرية عن نفسها من صواريخ القسام وقد حدد معسكره مسبقا.. كل التهدئات كانت
تحترم فلسطينيا، أو لنقل بتعبير آخر، كما هو الحال في كل دول العالم، الطرف الأضعف
عسكريا يحترم اتفاقيات وقف إطلاق النار أكثر من الطرف الأقوى. كل الحيل على تقديم
اعتراف بالمحتل يحمي ماء الوجه للمقاومة الإسلامية تم اللجوء إليها.. كل التنازلات
الممكنة من وقف عمليات الاستشهاد الذاتي إلى ضبط المجموعات المسلحة الفلسطينية من
الفلسطينيين أنفسهم في غزة والضفة أيضا حدثت.. لكن وكما يقول المثل الشعبي: عنزة
ولو طارت.. لا مكان لهذه الحركة السياسية في خارطة المنطقة، لذا مطلوب التخلص منها
عاجلا أو آجلا.
يحق للإسرائيلي أن يصوت لنتانياهو وأحزاب الترانسفير
والمافيا الجيورجية بل والمومسات الروسيات. وليس من حق الفلسطيني أن يختار في
قيادته السياسية إلا من يرضى عنه عدوه.
ولأول مرة في التاريخ المعاصر، يعتقل
من النواب والوزراء فوق المئة ولا نسمع شكوى أو احتجاج من منظمات مهمتها الدفاع عن
منتخبي الشعب وممثليه؟ لأول مرة ترتكب جرائم متتالية بحق الإنسان الفلسطيني ترتقي
كلها لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والعالم يتحدث عن ضرورة وقف العمليات
العسكرية من الطرفين. لأول مرة يقتل زيد عمر فيطالب العالم عمر بوقف العدوان؟ هل
يقامر العالم بكل إنجازاته مقابل إرضاء هذه الدولة العدوانية المركبة بقرار من
الأمم المتحدة ودعم القوى الكبرى؟
لا يمكن الحديث عن صمود وانتصار أو
هزيمة.. فالمعارك العسكرية في الأسلحة الحديثة ليست مبارزة متكافئة.. شعب تحت
الحصار منذ انتفاضتين، وتحت الخناق منذ 18 شهرا، 80% منه تحت خط الفقر ومعظم
الأدوية الضرورية للجرحى والمرضى غير متوفرة والطاقة الكهربائية تتحطم محطاتها منذ
اعتقال الجندي شاليط أما المواد الأساسية فتقدم بالقطارة.. فعن أي توازن في القوى
يمكن أن نتحدث؟
إن ما يحدث كفيل بزرع كل طاقات الحقد والكراهية الممكنة تجاه
قوة تحصل على ما تريد وعندها ما تريد وما لا تريد، مقابل شعب محروم من أبسط عناصر
البقاء على قيد الحياة.. زرع هذا الحقد ليس فقط في المنطقة العربية والعالم
الإسلامي، بل عند كل ضمير حي في العالم.. ومن المضحك بعد كل عدوان مشابه أن يطرح
السؤال: لماذا أنتم ضد التطبيع؟ لماذا أنتم ضد دولة صارت قوة إقليمية وأمرا واقعا؟
إلى متى سيبقى العربي في أوهام فلسطين؟
تعيد أحداث غزة لأوليات كادت تنسى حق
الاستراجاع، وتذكر من لا ذاكرة له بأن هذه الدولة المشوهة المسماة إسرائيل لا يمكن
أن تتعامل مع الجوار إلا بمنطق القوة، وبالتالي عرض عضلاتها في الهدم والقصف والقتل
لكل من لا ترضى عنه. طاحونة العنف هذه تقوم منذ ستين عاما على مبدأ بسيط هو ضرورة
قتل الشبيه (أو من جئت مكانه) وفق نظرية رونيه جيرار في “العنف والمقدس”. فزراعة
شعب في أرض لشعب آخر يعني في أية إيديولوجية تفوق أن هناك شعب زائد عن الضرورة، وكل
وسائل التخلص منه مشروعة. هنا تصبح عملية الإبادة الجماعية باردة بالاستيطان
والحواجز والحصار وضرب مقومات الحياة للآخر، وساخنة بالتهجير والقتل والحرمان من
أوليات البقاء على قيد الحياة. وفي كل أزمة، يظهر في الوعي واللا وعي الإسرائيلي
السائد، هذا المخزون العدواني للفلسطيني ينصب الصهيوني رمزيا فوق فكرة الذنب أو
الشعور بأي ذنب تجاه حقيقة أن تحت إسرائيل بلد اسمه فلسطين، وأن من تبقى من هذه
الفلسطين هو الذاكرة التي تمنع تزوير التاريخ والواقع. أليس الصديق العزيز لإسرائيل
وأحد أقطاب اللوبي الصهيوني في فرنسا جاك أتالي هو الذي قال: “بالحرب أو بالسلم،
إسرائيل كما هي لا مستقبل لها”.